الشعر الشعبي في اليمن ومدى ارتباطه بالمجتمع ..الدور والتأثير المباشر/ كتب : صالح عبده إسماعيل الآنسي



الشعر الشعبي في اليمن
ومدى ارتباطه بالمجتمع
الدور والتأثير المباشر

محاضرة مقال بحثي
ألقيت بالأمسية الصوتية النقاشية – قاعة ” بصمة مبدع “
منتديات الرابطة العربية للأعلام التنموي
الأحد 31-12-2017م
للمدرب الكاتب الأديب :

 أ. صالح عبده إسماعيل الآنسي
_____________

* مقدمة :

في البداية أحب أن أتقدم بالشكر لإدارة الرابطة العربية للإعلام التنموي ولكافة الأخوة والأخوات العاملين بمنتدياتها لإهتمامهم بالشأن الأدبي والثقافي في اليمن والعالم العربي كعنصر هام من عناصر أهدافها وأجندة أنشطتها الإعلامية التنموية , ولإختيارهم لي- بحسن ظن أرجو أن أكون عنده وفي محله- لإعداد هذا المقال البحثي ، وإلقائه محاضرة بقاعة (بصمة مبدع) بمنتديات الرابطة.
لطالما كان موضوع الشعر الشعبي وهمومه يشكل حضوراً بارزاً في مشهد الحركة الثقافية العربية وفي حاضر وماضي اليمن منذ القدم.
والشعر الشعبي يُعتبر أكثر قُرباً بطبيعة الحال إلى الناس من شِعر الفصحى العمودي أوالحُر اللذان يعدان كما يقال فن النخبة ؛ لصعوبة الأخيرعلى الفهم المُباشر ، واحتوائه على المفردات والمصطلحات المُركبة ، وصبغها بحالات انفعالية تتطلب مزيداً من البحث حين مطالعتها أو الاستماع إليها , ولذلك فهو يعد أكثر ألوان الأدب ارتباطاً بالمجتمع والأقرب إليه ، والأكثر شيوعاً ورواجاً وتأثيراً عليه في تناول ومعالجة مختلف القضايا ، وفي تغيير الكثير من القناعات بشأنها , وهذا بدوره حفّزنا على عمل هذا البحث الذي يحمل عنوان :
 “الشعر الشعبي في اليمن ومدى ارتباطه بالمجتمع…الدور والتأثير المباشر”
للإسهام في تقديم صورة تأصيلية ونقدية متواضعة لجوانب هذا الجنس الأدبي نشأةً وفناً وشعراً ورسالة.

* مفهوم الشِعر الشعبي :

ينبغي علينا التنويه أولاً إلى أن الشعر الشعبي يعتبر فرع من فروع الأدب الشعبي ، أو ما يسمى بالفلكلور(التراث) أو الممارسة الإجتماعية الثقافية, والأدب الشعبي هو مجموعة الفنون القديمة- والشعر منها – والقصص والحكايات والأساطير المحصورة بين مجموعة سكانية معينة في أي بلد , ويتم نقل المعرفة المتعلقة بها من جيل إلى جيل عن طريق الرواية الشفهية غالباً , وقد يقوم كل جيل بإضافة أشياء جديدة من واقع حياته التي يعايشها , وهذا الإبداع ليس من صنع فرد ؛ ولكنه نتاج الجماعة الإنسانية ككل في مجتمع ما.
وحول مفهوم الأدب الشعبي ذكر المفكر الأديب الكبير الراحل الأستاذ عبدالله البردوني أن ضروب التعريف العام له تنقسم إلى أربع نظريات ، أجملها في التالي :
النظرية الأولى : لم تِشِر في تعريفها للأدب الشعبي إلى إبداع هذا الأدب واختلاف أطواره ، وإنما نسبته إلى المغمورين المجهولين على تعاقب الأجيال.
النظرية الثانية : تُعَرِّف الأدب الشعبي بأنه  الفن المروي شفهياً ، والذي لا يعرف أحد له قائلاً معيناً.
النظرية الثالثة : تعرف الأدب الشعبي بأنه الفن الذي يعبِّر مباشرة عن الحياة ، سواء كان قائله معيناً أو مجهولاً.
النظرية الرابعة : تعرف الأدب الشعبي بأنه  كل فن يعبّر عن أحوال الشعب وتطلعاته ، بغض النظر عن عامية اللغة وفصاحتها ، وبغض النظر عن معرفة القائل أو مجهوليته.
والشعر الشعبي أو الشعر العامي هو الشعر الذي يستمدّ كلماته وألفاظه وطريقة أدائه ومعانيه وأسلوبه مِن الحياة العامّة أو الشعبيّة ، حيث يكتب بكلمات من اللهجة المحكية بين الناس، ولا يستخدم الفصحى ، لكنه يختار أجمل التوصيفات التي يقولها الناس في كلامهم ولهجتهم المحكية.
وعندما نتحدّث عن الشعر المحكي لا نقصد بذلك الطريقة العبثية بالنظم ؛ بل البساطة والقوّة التي لا تتأتّى لأيّ أحد ، وقول الشِعر الشعبي يُعدّ مهارة جامعة ؛ فالذين يكتبونه يُعبّرون عن أصالة القبيلة والبادية والريف والحارات الشعبية وأزقة البيوت وطبيعة الحياة وصعوبتها في موضع ، وجمالها وسهولتها في موضع آخر ، والشاعر هنا يبحث عن أعذب مُفردة وأكثرها تلقائية ليكسبها المعنى الذي يطير إلى أذن المتلقي ويرحب بها .

* الشعر الشعبي في اليمن وأشهر ألوانه :

الشعرالشعبي في اليمن يتمتع بالثراء الكبير , وهو زاخر بألوان من الشعر التمثيلي والقصصي والغنائي , ويشبه في غالبيته العظمى الموشحات الأندلسية ، ففيه التوشيح والمواليا والتقفيل والدوبيت وكذا التشطير والتربيع والتخميس , إلاّ أنه موشح من نوع جديد , فهو ملحون لم يراعَ فيه الإعراب بقدر ما رُوعي فيه الإيقاع الغنائي والضبط الفني والعروضي , ولكنه يمتاز ببلاغة التعبير وحسن السَّبك حتى أنه ليلحق بالموشح الشعري
ويتميز الشعر الشعبي في اليمن بعناصره المتعددة بما فيها الأهازيج والزوامل والبالات والمواويل وأغاني المزارعين وكذلك الألغاز والأحاجي.
قال الشاعر الكبير الدكتور عبد الولي الشميري بمناسبة اشهار جمعية الشعراء الشعبيين اليمنيين على موقعه بديوان الشعر الشعبي :
” الشعر الشعبي هو الأقرب والأطرب لعامة الناس في كافة شعوب الأرض , وهو الإيقاع الصوتي الذي ترضعه أذن الشاعر الشعبي الموهوب منذ صباه , في بيئته ومراتع طفولته , فمفرداته مأنوسة لدى العامة وموسيقاه طروبة عذبة , زجالة مرقصة , وفيها الغزل التصويري البليغ الذي يقوم على المفردات العامية المختزلة , والإيماءات الفنية المقتضبة , لذلك كان الشعر الشعبي أسهل حفظاً , وأقرب استذكاراً , حتى على الذين لا يعرفون القراءة والكتابة ، وفي الشعر الشعبي اليمني مدارس عديدة، ومناهج فنية ذات قواعد، وقيم نقدية أقرب ما تكون للموشحات، و”الدوبيت” التي وفدت من مدارس خراسان وأصفهان وشيراز ، ومن هذا الشعر الشعبي رضعنا الحكم الشعرية وقواعد القيم التي تنسب للحكيمين اليمنيين الحُميد بن منصور الأبيني، وحكمه شهيرة في الغرب والجنوب اليمني، والحكم علي بن زايد اليحصبي الذي شاعت وذاعت حكمه الشعرية في الوسط والشمال اليمني حتى لكأن حِكَم هذين الحكيمين آيات محكمات لدى العامة والزراع ، لكن الشاعرين الشعبيين الرائدين في تيار الشعر الشعبي هما ابن شرف الدين الكوكباني والفقيه مهير الزبيدي، ولا يعززا بثالث رقةً وشجاً وتأثيرًا ، وأشهر قصائد الغناء اليمني هي تلك التي غناها مشاهير العزف والطرب في اليمن، وهي ذاتها التي جمع معظمها الشاعر الكبير محمد عبده غانم في كتابه “شعر الغناء الصنعاني” وتوج موكب هذا الفن عددٌ من الشعراء المعاصرين في اليمن، كالشاعر مطهر بن علي الإرياني، وعبد الله عبد الوهاب نعمان (الفضول) ، وحشد لا أستطيع ذكرهم هنا من الموهوبين”
وتعقيباً على آخر ما قاله الدكتور الشميري  في هذه النبذة المقتبسة عنه أقول أنه قيل أن عدد الشعراء الشعبيين اليمنيين كان قد تجاوز قبل عقد من الآن تقريباً عدد (12) ألف شاعراً وشاعرة حسب التقديرات كما قرأت.
ولبيان مدى الإرتباط الوثيق للشعر الشعبي في اليمن بالمجتمع ودوره فيه وتأثيره المباشر عليه … كان لا بد لنا بداية أن نقف على دراسة أشهر ألوانه ، وأن نعود بأثر رجعي إلى تاريخ نشأتها ومراحل تطورها , وفيما يلي سأتحدث – على سبيل المثال لا الحصر- عن أشهر ثلاثة ألوان من الشعر الشعبي في اليمن قديماً وحديثاً :

* اللون الأول : الشعر الحميني :

الشعر الحميني هو الشعر الشعبي الملحون المغنى المعروف في صنعاء والمناطق الشمالية الغربية الوسطى باليمن ويقابله في سائر انحاء الجزيرة العربية والبوادي المجاورة الشعر النبطي ، أما في الأقطار العربية الأخرى فيعرف بالزجل ، ويطلق عليه شعر الغناء الصنعاني أو الشعر الحميني ، و قد اقترح مصطفى صادق الرافعي تسميته بالموشح الملحون لمزجه بين الشعر والموشح ، وأشتهر عن الشعر الحميني أنه عادة ما تدور أغلب قصائده حول الحب والغزل ، وقد عدت منظمة اليونسكو فن الغناء الصنعاني بالشعر الحميني من روائع التراث الثقافي اللامادي الإنساني من اجل المحافظة عليه ، وبالنسبة لسبب تسميته بالحميني فحتى وقت قريب لم يكن لأي باحث أن يعرف سبب هذه التسمية وقد اجتهد في ذلك كثير من الباحثين في اليمن أمثال الدكتور عبدالعزيز المقالح في كتابه (شعر العامية في اليمن) دون أن يقف على حقيقة هذه التسمية ، حتى أتى الباحث اليمني عبدالجبار نعمان باجل في كتابه (الشعر الحميني..الريادة والأصول) ذكر فيه أن الشعر الحميني سمي بذلك نسبة إلى قرية الحمينية من مخاليف الحديدة.
وفي رأي آخر…يقال : سمي الشعر الحميني بالحميني نسبة إلى الشاعر محمد بن عبدالله شرف الدين الكوكباني الملقب بالحميني الذي ولد في سنة 930 هجرية فقد توسع ذلك الشاعر وأكثر من نظم الشعر الشعبي اليمني فنسب هذا اللون  المشهور له ، كما نسبت الألحان اللعبونية في نجد والحجاز إلى ابن لعبون والألحان الحميدانية إلى حميدان الشويعر ، ولكن الشعر الصنعاني بالذات سمي كله بالحميني نسبة إلي هذا الشاعر الذي أبتكر أشكالاً متعددة للأشعار الغنائية ، مع أن الشعر الشعبي في اليمن عامة يسمى بأسماء مختلفة حسب تنوع اللهجات المحكية في مختلف مناطقه ، ففي حضرموت يسمى بالحضرمي ومنه لون الدان والذي كان اشهر شعرائه- اي الشعر الحضرمي- شاعر الوجدان حسين بن ابي بكر المحضار المتوفى سنة 1422 هجرية ، وفي لحج يسمى باللحجي والذي يعد اشهر شعرائه شاعر الحماسة والعرضة الأمير أحمد بن فضل العبدلي المتوفى سنة 1362 هجرية والملقب بالقمندان ، وأما في مناطق تهامة فيسمى بالتهامي..اليماني أو الشامي.
ولا يوجد مصدر دقيق يثبت لنا الزمن الذي نشأ فيه لون الموشح الحميني في اليمن ولكن يمكننا تحديد القرن الثالث الهجري تاريخاً له , بدليل ظهوره في القرن الرابع وبالتحديد في الأندلس على يد رجل ضرير يدعى محمد حمود أو محمود القبري- نسبة إلى قبره- كما ذكره ابن بسام في كتابه (الذخيرة في محاسن الجزيرة) , وقد أختلف في تسميته فقيل أنه محمد الفريري أو المقبري – وأظن أنه القِــيَــري من خولان الطيال شرقي صنعاء – ولكنهم اتفقوا على أنه كان من شعراء الأمير عبدالله بن محمد المروني نسبةً إلى قرية (المَرْوَن) من آنس  ، وهذا دليل على أن الموشح اليمني قد نقل إلى الأندلس , وقد كان قبل ذلك مجرد أطار وخواطر ملحونة ، ولكنه في الأندلس حظي بغناء زرياب وتلحين ابن اباجة ورعته عبقرية ابن ماء السماء وغيرهم من أدباء القرنين الخامس والسادس ، ثم انتقل في القرن السابع إلى ابن سناء -الملك المصري- فزاده سناءً على سناء ، ثم عاد بعد هجرته الطويلة إلى اليمن مصقولاً مهذباً ، فلم يكن يمني بدائي ولا شعر أندلسي بليغ وإنما بين بين..فأطلق عليه أدباء اليمن (الحميني).

ويمكننا تفنيد الشعر الحميني إلى ثلاثة أصناف رئيسية حسب أغراضه المشهورة وبنائه اللغوي:

أولاً – الحميني الوجداني :

قيل أن أول من أشتهر في ميدانه ابن فليته ثم المزاح ثم العلوي , وفي القرن التاسع الهجري برز علم من أعلام الأدب اليمني ورائد عظيم من رواد الموشح اليمني هو محمد بن عبدالله شرف الدين الكوكباني  الذي كان بالنسبة للموشح الحميني كعُبادة القزاز بالنسبة للموشح الأندلسي ، وتمتاز موشحاته بالرقة المتناهية والوجدانية النابضة المجردة من المادية والمجون الغريزي , أما غزله فمزدوج بين الخيالية الحزينة والعذرية المحرومة ، ولكنه تعبير صادق عن الروح اليمنية المتسمة بالقلب الرقيق والإحساس المرهف , وقد أصبح غزله أنشودةً عذبةً تتناقلها الأجيال , ومن غنائياته المشهورة مثلاً  :

– في الشكوى قصيدته التي مطلعها :

المعنى يقول يا من سكن في فؤادي            واحتجب في سعوده

– وفي الوصف قصيدته :

صادَت فُؤادي بالعُيون الملاح              وَبالخدود الزَّاهِرات الصّباح
نعسانة الأجفان هيفا رداح               في ثغرها السلسال بين الأقاح

وهي القصيدة التي كان اشهر من غناها هو الفنان عبدالرحمن الحداد

– وفي العتاب قصيدته التي مطلعها :

يا من سلب نوم عيني طرفه النعاس
وعذب القلب ما بين الرجاء والياس
واغرى بي الشوق والأشجان والوسواس
لا تشمت الناس بي يا منيتي في الناس

– وفي الهجر قصيدته :

خلي جفاني بلا سبب
حري عليه ما سبب جفاه
أبدى لي الصد واحتجب
ونغص العيش والحياة
وغاب يا ناس واجتنب
فلا يراني ولا اراه
من ذا تقولوا عليه كذب
ومن تقولوا من الوشاه

وهي القصيدة التي كان اشهر من غناها في عصرنا الحديث الفنان محمد حمود الحارثي.
ويلحق بمحمد بن عبدالله شرف الدين الكوكباني القاضي علي بن محمد بن أحمد العنسي-المتوفى سنة 1139 هجرية- في وجدانياته الشهيرة والتي أصبحت كالأمثال وما تزال يتناقلها الناس ويتغنون بها حتى اليوم ومنها قوله :

وامغرد بوادي الدور من فوق الأغصان
وامنجش صباباتي بترجيع الألحان
ما بدا لك تحرك شجو قلبي والأشجان
لا انت عاشق ولا مثلي مفارق للأوطان

وهي القصيدة الشهيرة التي غناها الفنان علي بن علي الآنسي
وقوله :

واسيد انا لك من الخدام                            شاء ملكك روحي الغالي
يشهد بعشقي لك الأيام                            حتى وشاتي وعذالي

وقد كان أشهر من غناها الثلاثي الكوكباني

ثانياً – الحميني الحكمي :

والبعض يطلق عليه الشعر الحكمي فقط دون الإشارة إلى أنه حميني ، ويرونه جنساً مستقلاً من أجناس الشعر الشعبي في اليمن ، وهو شعر فصيح المفردات ، غير معرب ، يختلف عن الفصيح بتسكين أواخر الكلمات ، ويشيع في التواشيح الدينية والأغاني ، ويتجلى في حمينيات القاضي عبد الرحمن بن يحيى الآنسي المولود بصنعاء سنة 1168هجرية وله ديوان ضخم يفيض بروائع التوشيح والزجل المواليا المفعمين بالوجدانيات الرائعة والحِكَم المأثورة يسمى (ترجيع الأطيار في مرقص الأشعار) ، وقد مكنه تبحره في العلوم – إذ كان رجل قضاء مشهور من اهل صنعاء وولي القضاء بحجة- أن جاءت أشعاره مصبوغة بسمو الذوق ورقة الحاشية إلى جانب تأثره ببيئته الصنعانية المرحَة ، ومعظم قصائده مكاتبات وتهاني ومدائح للإمام المتوكل على الله أحمد وإبنه المهدي عبدالله ، ومن موشحاته في العتاب قصيدته العذبة المشهورة التي قال في مطلعها :

عن ساكني صنعا
حديثك هات وا فوج  النسيم
وخفف  المسعى
وقف كي  يفهم  القلب الكليم
هل عهدنا يُرعَى؟!
وما يَرعى العهود إلاّ الكريم
وسِرَّنا مكتوم
لديهم..أم مُعَرَّض للظهور؟!

ومن أعذب ما قال :

يا طير يا ناشر بضوء باكر
أوحشت بالفرقة غصون الاشجار
إن كنت الى صنعا اليمن مسافر
فبالنبي والصالحين الاخيار
تبلغ الأحباب سلام عاطر
منا وعنا خصهم بالاخبار
وكل اخبار الهوى نوادر
يحمي عليها الما وتبرد النار

ومن أغرب وأعجب ما قال :

صاح هذا تجاهك جبل صنعا فقل
يا نقم قد سبق وقتك اوقات
وانت قائم مديم النظر مشرف مطل
فوق ابيات الاحياء والاموات
عندك اخبار عجيبة تعلم من جهل
هات بالله عليك وا نقم هات
كم ملك قد رأيته بملكه مستقل
قاهر السيف ماضي الإشارات

هذا ومن المعروف أن من أعلام شعراء الحميني أيضاً ولده القاضي أحمد بن عبدالرحمن بن يحيى الآنسي الذي كان أباه شديد الإعتزاز بمقدرته وتفوقه في كتابة الشعر عليه ، ورغم تلك الإجادة التي فاق بها أبيه إلا أنه لم يحقق شهرة والده ، وله ديوان بعنوان (ديوان الصبا) ، ومن أشهر قصائده المغناه قوله :

قال المعنى لمه يا خل روحي فدا لك                    شا روح في عشقتك
والحال إني مولع بك وعاشق جمالك                   والروح  في قبضتك

وقوله :

يا من لقى قلبي المضنى ورده إليا               بشارته واسعة
شا بذل له الروح والمهجة وما عاد معيا        يا لاقي الضايعة

ثالثاً – الحميني الهزلي :

ويعتبر الخفنجي والقارة فرسا ميدانه وأبرز أعلامه ، فأما علي بن الحسن بن علي الحسين بن الإمام القاسم بن محمد المعروف بالخفنجي فقد عاش بصنعاء فيما يعرف ببير العزب , والتي كانت تسمى حينذاك بنزهة الأدباء ، وكان منزله المسمى السفينة مأوى للأدباء واللطفاء ومحط الرجال الظرفاء ، وقد كانت بينه وبينهم مطارحات ومسابقات شعرية جمعها بعضهم في مجلد لطيف سماه (سلافة العدس وزهرة البلس) ، وقد توفي في سنة 1180هجرية.
وأما أحمد بن حسين شرف الدين الحسني الكوكباني المعروف بالقارة والمتوفى سنة 1280 هجرية… فقد كان عالماً فاضلاً وشاعراً مجيداً وأديباً أريباً ، وهو ثاني أشهر شعراء كوكبان الحمينيين بعد ابن شرف الدين , كما إنه ثاني أشهر شعراء عصره بعد القاضي عبدالرحمن الآنسي ، تولى قضاء لاعة من بلاد كوكبان ، وكان عصره عصر اضطراب وفتن حيث شهد خمسة أئمة ، وله ديوان أكثره هزليات ، وقد عالجت أفضل قصائده أوضاع البلاد حينذاك ، وتوفي وهو في طريقه إلى الحج.
وقصائدهما- أي كلاً من الخفنجي والقارة- تمتاز بخفة الروح والسخرية اللاذعة ، ولكل منهما شعر فصيح وديوان ضخم كما أسلفنا يفيض بالإبداعات الأدبية التي تشكل جانباً هاماً من جوانب التراث الشعبي والثقافي كالعادات والتقاليد والأمثال ، والتي كلها تعتبر مادة خصبة لدراسة فولكلورنا علمياً ولغوياً وأدبياً.
وهو ما أورده عنهما الأديب اليمني محمد سعد كمال في كتابه ( الطرائف المختارة من شعر الخفنجي والقارة) ، أورد لكم منه نموذجاً من شعر كلٍ منهما :
فمن طريف وأشهر ما قاله الخفنجي :

بير العزب قالت لروضة أحمد
قد عندنا حمام ودور مشيد
وسو حنافيه الهزار غرد
والغيم خيم فوقنا وأرعد
فحققى يا عجزة المخاوف
ما فيك من معنى ومن لطائف
ومن مضى في شارع المخالف
يلقاه غولى في الظلام ممدد
أجابت الروضة بقول حالي
شوى شوى يا شعلة القزالي
توخرى باللَه من قبالي
ما فيك من ذاك البياض مبزد
فالرازقي فيا ذهب مطلى
عنب حكى أعناب أرض دلى
يسوا صبوحه ألف قرش مطلى
مثل الذهب في الكف حين ينقد
فجوبت بير العزب بسرعة
قالت لي الحسن البديع جمعه
بين المخارف قد بقيت سمعه
والأنس عندي كل يوم مجد

ومن طريف ما قاله القارة :

يقول الهاشمي يا حلق دقني
إذا زد سرت في ذا الوعد ناصح
وذا الحين خير شافعلها في اذني
وشا دخل بحر موجاته قبايح
وشا فعل لي عسيب الى فوق زغني
عوض لبس السجاجيد والمسابح
ومعجر عشر ليات فوق بطني
وفرده حضرمي فيها دنادح
وشا لقي لي يهودي ذي يغنى
زنانيره تجي زوجين مطارح
عليا عار لا غزل غزل مثنى
بمنويط الدياثة والفضايح
أنا حمدين ما احد قد غلبني
ويعرف مذهبي غادي ورايح
وقد جربت نفسي جيت واني
على شي لا ش انا جالس مسامح
ويعرف سيرتي إنسى وجني
وفي صدري مراهم للجرايح
ومن يفعل مليح اليوم يفني
زمانه ليس تقبل له نصايح

ومما سبق نجد أن الدارس في شعر الغناء الصنعاني(الحميني) يدرك أن عصره الذهبي- في غزارة الإنتاج والجزالة والجودة في السبك – كان في الفترة الواقعة بين بداية القرن العاشر إلى نهاية القرن الثالث عشر الهجري ، أما في القرن الرابع عشر الهجري والعقود التي تليه ، وهو ما يوافق عصرنا الحديث بنهايات القرن التاسع عشر الميلادي والقرن العشرين برمته فقد أنبرا مجموعة من الشعراء والفنانين اليمنيين للتنقيب عن ذلك التراث الشعري والعناية به من خلال تجديده ورفده بمزيد من الكتابات والغناء بأعذب القصائد وأجملها.
وفي مقال لي بعنوان ” الأغنية اليمنية بين الماضي والحاضر..وعوامل النهوض” قلت ما نصه :
” نستطيع أن نقول أن الولادة الحقيقية للأغنية اليمنية كانت بعد قيام ثورتي 26 سبتمبر و 14 اكتوبر في كلٍ من شطري اليمن سابقاً..حيث هيأت عوامل الأمن والإستقرار والتقدم المناخ المناسب لتطور جميع فنون الآداب ومنها فن الغناء والطرب وكل المجالات الإبداعية والثقافية عامة ، رغم أن ارهاصات ومخاضات تلك الولادة بدأت منذ عهد مبكر مع ظهور أطياف كلٍ من الشعر الحضرمي واللحجي والتهامي وظهور شعر الغناء الصنعاني العذب الرقيق المعروف بالحميني ، والذي كان أشهر شعرائه آنذاك من القضاة والفقهاء..كونهم كانوا أكثر فئات المجتمع علماً وثقافة ورقياً ، وكان هناك العديد من المطربين الذين تناهى إلينا ذكر أسماء وأخبار بعضهم ، وبالطبع لم يتركوا بعدهم إرثاً صوتياً لإنعدام وسائل التسجيل والتوثيق الصوتي والمرئي آنذاك ، إلا أن أغانيهم وألحانهم ظلت تتناقلها الذاكرة الشعبية للأجيال حتى وصلت إلى آبائنا وفنانينا الرواد في العصر الحديث-قبل وبعد منتصف القرن التاسع عشر الميلادي-الذين كان لهم الدور الكبير والأبرز في إحياء وتجديد ذلك التراث الأدبي والفني ، ورفده بالكثير من جديد الشعر والألحان ، ولذلك كان عصرهم-الممتد لأربعة عقود تقريباً-هو العصر الذهبي للأغنية اليمنية والزمن الجميل لها بحق ، والذي يرى بعض المهتمين والنقاد-وأنا أحدهم-أنه لن يتكرر بمثل ذلك الزخم وتلك الطفرة ، وأن كل ما قد تلاه لا ينفك عن الثأثر به ولا يخرج أكثره عن نطاق التكرار والتقليد لنتاج رواده والتتلمذ أو التطفل على موائدهم”

وفيما يلي سأذكر لكم بإيجاز أسماء جملة من أهم وأشهر شعراء الشعر الحميني ومجددية في اليمن بالعصر الحديث :

جابر أحمد رزق : كان شاعراً ومنشداً , ويعد من أهم شعراء القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين , ولد عام 1842هجرية في قرية القابل وتوفي عام 1905م , شعره اليوم يدخل ضمن الشعر التراثي , وقد تغنى بأشعاره العديد من الفنانين له ديوانين شهيرين في الشعر الحميني هما : “زهرة البستان في مخترع الغريب من الألحان” و “قلائد الأبكار”.
عوني حسن العجمي : ولد عام 1912م في صنعاء , وتوفي في 15-11-1996م , كتب الشعر الحميني والغنائي , وتغنى بقصائده الفنان حسن العجمي والسنيدار , وأهم إصداراته ديوانه ” تحفة الأفكار في روعة الأشعار”.
مطهر علي الإرياني : أديب ومؤرخ وشاعر , ولد عام 1933م بالقفر- إب , تخرج من جامعة القاهرة , أطلع على التراث الشعبي اليمني وأعجب بالشعر الحميني وأجاده , أصدر ديوان شعر بعنوان ” فوق الجبل” ومن أشهر قصائده المغناة “الحب والبن” التي غناها الفنان علي بن علي الآنسي.
لطف عبدالله الخضر : ولد في عام 1937م بذمار , كتب الشعر الغنائي الحميني , وتغنى بأشعاره العديد من الفنانين اليمنيين , صدر له ديوان بعنوان “من وحي القلم” .
محمد عبد الرحمن كوكبان : ولد عام 1889م في صنعاء , ويعد من أشهر شعراء شعر الغناء الصنعاني , أجاد الشعر الحميني والحكمي.
محمد علي أحمد جعدان : ولد عام 1981م بصنعاء القديمة , أجاد كتابة الشعر الغنائي وغنى له العديد من الفنانين أبرزهم الحارثي وفؤاد الكبسي.
عبدالعزيز علي أحمد قاسم : ولد في صنعاء عام 1938م , كتب الشعر الحميني في وقت مبكر , وله مساهمات في الشعر الغنائي تغنى بها عدد من الفنانين.
حسين علي حمود شرف الدين : ولد في شبام كوكبان , وتوفي في عام 2006م , جمع بين العلوم الدينية والشعر الغنائي , وأشتهر بسبب قصيدته ” سلام يا من سكن إب الغروب” وقد تغنى بها وبمعظم قصائده الفنان محمد حمود الحارثي.
عبدالله هاشم الكبسي : ولد في 30-3-1936م في قرية الكبس-محافظة صنعاء , ثم انتقل للجبين بريمة , عمل في إذاعة صنعاء , وهو يكتب الشعر الحكمي والحميني وله ديوان مخطوط , تغنى ببعض قصائده ولده الفنان فؤاد الكبسي.
وممن كانت لهم مساهمات أيضاً في الشعر الحميني والغنائي الصنعاني الحديث : عبدالله أحمد نمران- عبدالله حمود حمران- حمود محمد عبدالله شرف الدين- شرف علي حمود شرف الدين- عباس محمد المطاع-إبراهيم الحضراني- علي عبدالرحمن جحاف- حسن عبدالله الشرفي- محمد حسين الشرفي, وغيرهم ممن وجدت من مصادري أنهم فعلاً كتبوا الشعر الحميني الحديث.
ومن الفنانين الشعراء رواد الإحياء والتجديد للأغنية الصنعانية وشعرها : أحمد السنيدار- علي عبدالله السمة- علي الآنسي- يحيى العرومة- علي الأسدي- أحمد علي المعطري..وغيرهم مما أتيح لي الإطلاع عليه , ولمن أراد المزيد من التفصيل والبحث عنهم فليطلع على موسوعة ” شعر الغناء اليمني في القرن العشرين” ، وهي أول موسوعة يمنية فنية تتضمن ( 3695) قصيدة غنائية لأكثر من (200) شاعر وفنان يمني ، وهي مطبوعة في عشر مجلدات ومجلد للفهارس , أصدرتها منذ عام 2007م في طبعتين دائرة التوجية المعنوي وطبعت بمطابعها.

* اللون الثاني : البالة :
لطالما سمعنا وقرأنا هذه الكلمة (البالة) يتردد صداها في الكثير من أغانينا الشعبية وموروثنا الشعبي الشعري ، وكان البعض يتساءل ما هي البالة؟! وماذا تعني هذه الكلمة؟! ، وهنا أكتفي بأن أنقل لكم بعضاً مما قاله الكاتب أحمد العجي في مقال له جميل بعنوان : ” البالة من أجمل ألوان الأدب الشعبي اليمني” حيث قال :
” البالة من أجمل ألوان الأدب الشعبي اليماني ، والتي حافظ عليها اليمانيون جيلاً بعد جيل في ريفنا اليماني , عندما كان يقيم حفلات السمر حتى طلوع الفجر في كل قرية في ريفنا الوسيع في اليمن الكبير شرقاً وغرباً , كما قال شاعر الأغنية الصنعانية والساعة السليمانية :

وما ألذ الجو حين خيّم
والليل حين أقبل دلا وأظلم

حيث يتجمع سكان كل قرية في دياوين السمر الوسيعة للإستمتاع بالبالة أجمل ألوان التراث الثقافي والأدب الشعبي ، حيث تبدأ البالة ويشترك في أشعارها الأدباء المبدعين ، ويترنم بألحانها التراثية الجميلة المبلبلون ، ويرقص على إيقاع أنغامها المصطفون في صفين متقابلين..صف للشباب والصف المقابل للشابات، ويدخل أول الشعراء المبدعين لأشعار البالة من الرجال أو النساء إلى الحلبة ما بين الصفين..ويقول ارتجالاً البيت الأول على لحن يختاره الشاعر من الألحان الكثيرة الخاصة بالبالة ، يفتتح البالة بالبيت الأول الذي يستعيذ فيه من الشيطان الرجيم ، ويرحب بالحاضرين، ويردد البيت الواقفون في الصفين المتقابلين من الشباب والشابات ، ويرقصون على إيقاع اللحن الذي اختاره البداع من ألحان البالة ، وتدخل مبدعة إلى الحلبة- شاعرة من حفيدات غزالة المقدشية-وتُبدع البيت الثاني بنفس الوزن والقافية واللحن الذي اختاره المبدع الأول الذي افتتح البالة ، وتستمر المساجلة الشعرية بين الشعراء والشاعرات الذين يرتجلون الشعر كما يرتجلنَهُ الشاعرات فوراً وفي الحال ، ويستمر الحوار بين الشعراء والشاعرات إلى أن يغلب أي فريق الفريق الآخر ، ويدخل إلى حلبة المساجلة والحوار الشعري رئيس لجنة التحكيم من كبار القوم ويعلن فوز الشعراء أو الشاعرات.
والجميل حقاً أن الشعراء والشاعرات يرتجلون الشعر في مباراة شعرية صاخبة ، وفي حوار حاد ، وفي مساجلة بليغة ، كما كان يفعل فحول الشعر في سوق عكاظ أو كما كانت تفعل الخنساء أو غزالة المقدشية في حلبات الإبداع الشعري ومحاربة التفرقة ، كما قالت غزالة المقدشية الكثير من الأبيات الشعرية للبالات التي كانت تشارك فيها مع الرجال في كل جلسات السمر ، ومنها هذان البيتان المشهوران :

سَوا سَوا يا عباد الله متساوية
ما حد وَلَد حر والثاني وَلَد جارية
عيال تسعة وقالوا بعضنا بيت ناس
وبعضنا بيت ثاني عينة ثانية

ومما نستدل به على مشاركة المرأة أخاها الرجل في البالة شعراً ورقصاً وأداءً..هذه الأبيات الحوارية ، وهذه المساجلات الشعرية مع الشعراء والشاعرات المشاركات في كل بالة تقام في جلسات السمر ، قال الشاعر أبو نعنعة هذه الكلمات التي يستنكر فيها مشاركة أحد المشاركين للنساء في البالة :

بالله يا راعي الدسمال ذي تقبعه
قلي منين انت والشيخ الذي تتبعه
ذي تلعب البال مع النسوان بالخيضعة
لاتعرف الرقص تتقنبع لنا قنبعة

وقد أجاب الشاعر المحاور لبقية شعراء وشاعرات البالة ، وقال كلمات هذه الأبيات الجميلة :

قال ابن مفتاح حيا الله أبو نعنعة
ذي يلعب البال واخته بالحروف تتبعه
ما بش معك عقل أما انا (عقول اربعة)
واحد معيَّا وعقل اخبّيه وعقل ارفعه
وعقل اخلّيه للْغَاغة وللخَيضعة
وعقل للشعر والبالة وللمجمعة

وقد قال شاعر من المتزمتين كلمات قبيحة متخلفة يحارب فيها شقائق الرجال والشاعرات اليمانيات المبدعات بتعصب وتخلف ، يُكرس فيها التفرقة بين الرجل والمرأة-ولا يجوز نشرها-وقد أجاب عليه الشاعر ابن مفتاح قائلاً :

قال ابن مفتاح ما في البالة إلا البنات
إن اقبلين سعد قلبه وإن قد اقفين مات
الله يصيبك يا الذي ما تحب البنات
وحبهن حل في وسط الكبد والريات ..”

وفي اعتقادي- والكلام الآن لي- أن هذا اللون الجميل من فنون أدبنا الشعبي الذي كان سائداً في الماضي … لم يعد له حضور واستمرار في كثير من المناطق اليمنية كما كان من قبل ، وربما ترجع عوامل اندثاره إلى أسباب عدة لا يسع المجال لتطرقها وتحتاج للدراسة والبحث .

* الزامــل :

” يُعدُّ منبراً وجهازاً إعلامياً للقبيلة في السلم والحرب والمناسبات ، ومفتاحاً لقيم التسامح والتعايش والكرم “
هذا ما قاله الكاتب اليمني محمد محمد إبراهيم في مطلع مقال له رائع بعنوان   الزامل…أشهر أجناس الأدب الشعبي في اليمن ” أورد لكم بعضاً مما جاء فيه حيث قال :
” الزامل في ثقافة المجتمع اليمني، فن وأدب راقيان ، وملكة يحظى أصحابها بتقدير اجتماعي كبير ، لكنه بكونه كلاماً منظوماً يعد سلاحاً ذا حدين فإيجاباً قد يكون مفتاح التسامح والتصافي في أكثر المشاكل الاجتماعية تعقيداً، إذ يعزز برسالة الإنصاف والإمتثال للحق وإرضاء العاطفة الجمعية والغبن القبلي الذي قد يحصل لدى أحد طرفي الخصام ، وسلباً قد يكون مُشْعِلاً لفتيل حروب الثأر التي تبدأ بالكلمة ، وقد لا تنتهي بالرصاصة القاتلة ، ولا يسقط جرمها بالتقادم ، سيما عندما يحمل الزامل في طيات نظمه رسالة احتقار أو إهانة لقبيلة ما…تجاه حق معنوي أو مادي، وهو ما يعكس خصوصية عنيدة وشرسة في القبيلة اليمنية ، كما يعكس هذا النمط الشعري الشعبي سمات الظروف الإجتماعية والسياسية والإقتصادية التي فيها ومنها تخرُج الزوامل وتتربّع على أجناس الأدب الشعبي ، الذي صار يجيده معظم رجال القبيلة ، حتى ولو لم يتعلــم أو يفقه هجائية اللغة العربية ، ويكفي صاحب الزامل من التعليم ما يعينه على الكتابة البسيطة ولو باعوجاج لتدوين زامله خلف ورقة علبة السجائر ، كمحطة أولى…لينتقل بعدها إلى ذاكرة المجتمع ويتماهى قائله حتى يصبح الزامل منسوباً للقبيلة وربما مجهولاً قائله”
وفي دراسة له بعنوان : ” الزوامل.. دُرر الزمن من فنون اليمن ” قال الباحث اليمني نزار العبادي ما نصه :
” يتم نظم الزامل على هيئة بيتين أو أكثر من الصياغة الشعرية البليغة التي تؤدي غرضاً محدداً بعدة أساليب وألحان، فهناك الزوامل القصيرة الأنفاس التي تنسجم وسرعة الحركة- صعوداً أو نزولا على الأرض- وهي النمط الشائع في نظم زوامل الحرب ذات الإيقاعات الصوتية الحادة التي تثير حماس ونشاط جمهور الزاملين، وترفع معنوياتهم القتالية، وتهز معنويات الخصوم ، علاوة على أن هذا النوع يميل إلى البدء بحرف النداء “يا” الذي يعمل على استفزاز المسامع وترويع العدو ، على غرار ما أنشدته قبائل (قيفة) عام 1879م عندما وصلت لمناصرة (آل حميقان) ، إذ قال شاعرهم :

يا نعوة الغناء ترزي واحربي
لاما الخلاقي يطعمش حالي وقير
ما شي عسل من ذي جناه الحُرَّبي
ما هل الجنابي مصقلة وسط الجفير

وكان الرد على ذلك بزامل آخر يقول فيه منشده :

يا نعوة الغناء بعقدش وكلي
من قبل ما يافع يكرونش سفاح
مذهب الزيدي ما هو زوج لش
ما زوجش إلاّ ذي عقد عقد النكاح

أما النمط الآخر للزامل فهو الذي يمتاز بطول أنفاسه ، ورتابة إيقاعاته ، وهو ما نجده في أغلب أغراض الزامل الأخرى، كالترحيب والفخر والعادات القبلية والرثاء وغيرها ، كما هو عليه الحال مع زامل الشاعر أحمد محسن من الضالع حين انتقد سياسة الإمام أحمد قائلاً :

مني سلام آلاف كلن يسمعه
وانت اسمع التسليم يا نايف منيف
مولى الدراهم مسحه لا توجعه
والحبس والقياد ما هل للضعيف

* البُعد المفاهيمي للزامل :

يُعرّفْ الزامل بأنه ضرب أو لون من ألوان الشعر الشعبي اليمني- في أصله- وأكثر أجناسه حضورا ً، كما أن المقصود بالزامل :
“نوع من الرجز الشعري، يلجأ إليه أبناء اليمن عندما يكونون في حالة خصام أو حرب ، فيقف قائدهم – وهو في الغالب يجيد نظم الزوامل- أو أي شخص منهم فيرتجز بضعة أبيات بلهجته العامية، فيتلقفها القوم وينغمونها بأصواتهم ، ثم ينشدونها جميعاً لإثارة الحماس وتحفيز الهمم ، وكذلك إذا أرادت جماعة من الناس أو قبيلة من القبائل أن تحقق لها مطلباً من مسؤول أو حاكم أو قبيلة أخرى فإنها توفد زمرة منها تمثلها، ولحظة وصولهم ينشدون الزامل الذي قد وضعوا فيه مطلبهم وأوجزوا فيه غرضهم ، ويكون الزامل عادة باللغة العامية ، وتتفاوت القطعة منه ما بين اثنين إلى ثمانية أبيات» ، وبصفة عامة، يعرَّفُ الزامل كجنس أدبي بأنه : فنٌ خاص من فنون اليمن وقبائله وبعض القبائل الأخرى في جزيرة العرب ، بمعنى أنه لا يشمل كل القبائل العربية ، وهو بقبائل الأرياف والبوادي أقرب ، وهي  القبائل التي يطلق عليها النسابون القبائل الكهلانية والقضاعية ، أما قبائل حمير والقبائل العدنانية – حسب الباحثين- فلا تميل إلى هذا الفن كثيراً ، بالرغم مما ذكره المؤرخون من أن هُذَيْلاً وثَقِيفاً وهما قبيلتان عدنانيتان كانتا تزوملان ولكن بندرة ، كما يندر نظم الزامل لدى قبائل مغارب اليمن الحميرية ، وقبائل الجذم العدنانية في شمال الجزيرة العربية”

*الزامل في محكمة العرف القبلي :

في المقال الذي نوهت له سابقاً لـ محمد محمد إبراهيم ذكر الكاتب قصة زامل حدث أن أطلع على مجرياتها بنفسه , مبيناً في حديثه عنها أن الزامل في ثقافة القبيلة والمجتمع اليمني يعتبر بمثابة محكمة للعرف القبلي يساهم في حل النزاعات والتحكيم في القضايا ، حيث قال :
 “بهذه الكلمات البسيطة الضاربة في العامية لهجةً ونطقاً – رغم تفصُّح بعض ألفاظها وحداثة شكلها الشعري وصوره البديعة :

أقسِمْ لكم بالله..
ما عَدْ لي بقا في مجلسي
ما دام جَتْنِي نائبهْ لا مَتْرسِي
فأسهْ وصِلْ راسي
وصاب الجرح ذي ما قَدْ نِسِي
با شل حُرَّاسِي
وبغْزِي لا حدود الأطلسي
إن كنت لي ناسي
أنا ذي كنت خالس مدعسي
الصخر قرطاسي
وخطي نار حمرا تلتصِي
والموت ناموسي
ولو كانت جهَنّم مرْوَسِي

كتب زمَّال يمانيٌ مُجِيد، موقفه وقضيته، ليقدّم بهذه العاصفة الناضحة بالتحدي، رسالة شعرية وقيمية ، ليس لخصمه فحسب بل ولكل قارئ وباحثٍ في الأدب الشعبي، مؤكداً أن هذا اللون الشعري الزواملي هو أبرز أجناس الأدب الشعبي اليمني، المشهور بالزامل لدى معظم قبائل اليمن وبعض قبائل شبه الجزيرة العربية.
قصة هذا الزامل ولغته وشهرته سرَتْ على كل لسان من عامة الناس في تلك القبيلة -التي أنتمي إليها- حدثت قبل 14 عاماً ، جعلتني محاصراً بأسئلة هامة حول جذور هذا الجنس الأدبي الشعبي ، ومتسائلاً عن الأسباب الجوهرية وراء خلوده وتأثيره وقيــمه الأصيلة ، وأهمية حضوره في طقوس الحياة اليومية ، واتساع المصالح والقضايا الخلافية ، أو حتى أسباب الأحداث المفاجأة التي لم تكن في الحُسبان.
وقد يكون شيطان الشعر في عالم الخيال الزمني والمكاني- في أي لون من ألوان الشعر الشعبي مغيباً للعقل- أو ضرباً من التهاويم ، فيكون المعنى في بطن الشاعر – كما يقال- لكنه في الزامل كفيل بجعل العقل حاضراً ، من خلال تركيز القضية الخطابية برمتها في صدر هذا النمط الشعري المقتضب ، فهو بمثابة دعوى قضائية – في عُرْفْ القبيلة – يجب الرد عليها بإنصاف للوصول لحل المشكلة والاعتراف بالحق ، ففي طياته تقام الدعوى ، وبه تكون الإجابة.
وهو ما ترويه قصة هذا الزامل – المذكور آنفاً- الذي جاء في سياق حادثة بسيطة على أبواب سوق شعبي (مدينة الشرق-آنس) تلتقي فيه قبائل ثلاث محافظات يمنية ، هي ذمار وريمة والحديدة ، حيث اعتدى أحد أتباع الشيخ والقائد العسكري (محمد صالح العرشي) على بسّاط (صاحب بسطة تجارة) من أبناء قبيلة بني الجرادي مديرية السلفية ، وعندما اشتكى أحد أصحاب المجني عليه إلى ذلك الشيخ والقائد العسكري والقبلي لم يعر الشكوى أي اهتمام.
خلاصة الأمر أن تصرف الشيخ المذكور مع الشكوى- بذلك البرود- أثار غضب القبيلة بأسرها ، وجعل الشاعر (الجرادي) يكتب زامله ، ويرسله إلى ذلك الشيخ والقائد العسكري..ليقرأه (العرشي) بمنطق وعقل ، مدركاً أن خلف قوة ورصانة هذا الزامل واختزاله التاريخي حق يجب الإنتصار له ، لتستمر مع ذلك قيم التسامح والسلام التي تطمر جراحات الماضي..فبادر من لحظتها بإرسال تحكيم (قِطَع من السلاح الكلاشنكوف) لوجهاء القبيلة..كاعتراف بالخطأ ، مستوعداً منهم وعداً ، ليأتي إليهم على رأس وفد من رجاله إلى قرية المجني عليه ، مصطحبين معهم رأس بَقَر ، ولهم بعد ذلك الحُكم ، فتم الإتفاق على يوم محدد ، ولما وصل الشيخ العرشي، ارتجز مع رجاله- الذين يجيد معهم رقصة البرع المصاحبة للرجز الزواملي – رده على زامل الجرادي ، منتصراً لحق القبيلة بكاملها ، معتبراً لها جاراً وسنداً يُعتز به ، حيث قال في زامل مطول لا أحفظه كاملاً  :

سلام من بدَّاع نظّمْ حرْفَه
يا رزح ظهري يا سلاح العطفهْ

ولأن الاعتراف بالخطأ – بحد ذاته – من قيم الشجاعة والإمتثال للحق ، فإن زامل الإعتذار يستفز لدى القبيلة التي كان الحق لها قيم الشهامة والكرم ، مؤصلاً قاعدة عريضة من قيم التسامح والعفو التي تُعَد أكبر من الحق المُعترف به ، ولذلك كان رد الجرادي- اللسان النطق باسم قبيلته – أكثر تحدياً من زامله الأول المرسل إلى العرشي ، ولكن في منحى قيمي أجمل ، حيث ارتجز زامله مرحباً بالوفد :

يا مرحبا يا شمس ربي رحبي
مرحبْ بكمْ من شرقها للمغربِ
أهلاً بمَن جاني ولبَّى مطلبي
العفو ديني والتسامح مذهبي

فقصد من هذا الزامل المقتضب العفو تماماً ، وأن الوفد ضيف على القبيلة ، وعليه أن لا يذبح ثوره ، أو أن يخسر ريالاً واحداً في وليمة تلك القبيلة التي عفت وضيفت وافدها.

* التأصيل التاريخي للزامل :

تاريخياً لا يوجد تدوين محدد لبداية هذا الفن الشعبي اليمني..لكن يوجد أول إشارة تدل على هيئة الزامل ، وهو ما جاء ذكره في قصة (ثيونانس) في أوائل القرن السادس ، عندما تكلم عن الوفد الذي أرسله قيصر الروم إلى ملك حِمْيَر (اليمن)، وهو الوفد الذي رأسه شخص يدعى (يدليانوس) ، الذي ذكر أنه رأى الملك الحميري عندما خرج في موكبه واقفاً على عربة أو مركبة ، تجرَّها أربعة أفيال ، وليس على هذا الملك من الملابس إلا مئزراً محوكاً بالذهب حول (حقويه) ، وأساور ثمينة في ذراعيه ، ويحمل بيده ترساً ورمحين ، وحوله رجال حاشيته وعليهم الأسلحة ، وهم يتغنون بإطرائه وتفخيمه ، فلما وصل السفير وقدم للملك كتاب القيصر .. قبَّله السفير نفسه ، وقبَّل الهدايا التي حملها السفير.
وهذا الوصف يدل على هيئة الزامل كما هو معروف لدى اليمنيين في المواكب والأعياد والإستقبالات والزيارات والمناسبات الأخرى كالأعراس وغيرها ، ومن هذا نستدل على أن الزامل كان معروفاً وشائعاً قبل الإسلام لدى عَرَبِ اليمن ، بل قبل هذا التاريخ بفترة ، لأنه ليس وليد الساعة ، أي في القرن السادس الميلادي ، وبإثبات وجود الزامل هذا الوجود المبكر ، يُرجّح وجود الشعر الذي هو مادة الزامل ، حيث لا زامل بدون شعر.
والزوامل الشعبية بعضها قد تكون مجهولة القائل ، وبعضها معروفة القائل ، وللدلالة على مجهولية قائل الزامل..يحمل الأدب الشعبي اليمني في سطوره المدونة نقلاً عن رواته المعمرين حكاية شعبية تناقلتها الأجيال، تؤصل علاقة الزامل بالأدب الشعبي الشفوي حيث تروي هذه الحكايات أن بعض القبائل فرَّت في سنة (دق يانـوس) إلى كهوف الجبال خوفاً من هجوم المعتدي ، وفي هدأة الليل سمعت أصواتاً جهيرة كثيرة العدد ، بديعة الإيقاع لم تسمع أجمل منها إثارة وحماسيةً ، كانت تردد باللغة الشعبية زاملاً يهز النفوس ويرنح قامة الصمت ، وعندما أصغت إليه القبائل حفظت ذلك الزامل :

قبح الله وجهك يا الذليل
عـاد بعد الحرايب عافية
عند شبَّ الحرايب ما نميل
باتِجيك العلــوم الشافية.

* الزامل والتحوَّل إلى فولكلور :

مع الممارسة العملية والتطبيقية للزامل تحول إلى فولكلور وثقافة ، لكن قبل تفنيد هذا التحول يجب الإشارة إلى أن ثمَّة فارقاً جوهرياً بين الزمّال والبدّاع ، فالزمّال هو من يزمِل بالشعر أو يردّده ، والبدّاع هو الذي نظمه ، والزمالة هم المجموعة أو المجاميع التي تتحد لتردد معاً وبصوت واحد هذا الرجز الشعري ، وغالباً ما يكون «البدّاع» زمّالاَ…أي هو من ينظم الشعر ويردّده ، فيما المجموعة هي التي تردد خلفه ، ونادراً ما يكون بداعاً -فقط- أي ينظم الشعر الزواملي والآخرون يرددونه ، ويحفظه الناس بعد ذلك جيلاً بعد جيل حتى يختفي القائل من كثرة التناقل ، فيتحول بذلك هذا الزامل إلى موروث تحفظه الذاكرة الجمعية ، وتبني عليه حكايات وقصصاً قد تطول ، ويسمى بـالبدَّاع لأنه يبتدع الزامل كفن يستنطق الحال ، وبعد إنشاده يسمى (زوامل) لكثرة الأصوات التي تردده ، فعندما يجتمع الناس في القرى لتلبية أي حادث يصنع (البدَّاع) شطرين أو ثلاثة أشطر يرددها الصف الأول على مرحلتين ، أولاها بأصوات قراءة للحفظ عن طريق التلقين ، وتاليها تجربة الأداء بأصوات خافتة ، حتى يتحسن الأداء ثم تعلو بعد ذلك الأصوات بالزامل المعبر عن الحدث ، وإذا كان الجمع كثيفاً يُُقسّم إلى صفوف : الأول يفصح عن المناسبة كما نظمها (البدَّاع) ، والصفوف الأخرى تطلق زوامل متعددة الإيقاع لا يشترط في أصواتها الدلالة على المناسبة ؛ لأنها تتوخى مجرد رفع الصوت كبرهان على الكثرة المندفعة ، ولا يشترط أن يكون القائل معروفاً ؛ لأن المراد رفع الصوت بأي أثر محفوظ ، وهذا التعريف الوصفي ينطبق على الزامل كفلكلور شعبي وكفن فردي أوجماعي.

* أغراض الزامل :

تتعدد أغراض الزامل بتعدد وسائل الحياة وأحداثها وتقلباتها ، فتجده حاضراً في السلم والحرب ، وفي طوارق الأحداث والفواجع المحمولة على الصُدفة ، وفي المناسبات والإستقبال والوداع والمفاخرة ، كما تجده منبراً حُراً مُعبّراً ومعززاً للقيم النبيلة السامية في التعايش وفي نجدة الملهوف والانتصار للمظلوم ، وأداة لتدوين الحوادث الزمنية العابرة ومجريات الصراعات القبلية ، ولأن المقام لا يتسع لتناول أغراض الزامل اليمني الرئيسة والمتفرعة، كان لزاماً علينا اختزال هذه الأغراض في بعضها كالتالي :

– الحرب (الفروسية والبسالة)
– اللوم والعتاب.
– الاعتراف بالخطأ والتحكيم في قضايا القتل.
– الفخر والتسامي بالعُرْفْ والموقف والقيم والانتماء.
– الاستجارة وطلب الإنصاف ورفع المظالم.
– الرثاء واحتمال الحزن في سبيل القيم.

* الزامل السياسي :

بحُكْم طبيعة المجتمع اليمني القَبَلي، صبغت ثقافة القبِيِلَة معترك الحياة السياسية والصراعات السلطوية ، ليسجّل المؤرخون عبر الأحداث المتعاقبة في تاريخ اليمن السياسي الحديث والمعاصر كثيراً من الزوامل ، التي صارت جزءاً من التاريخ الشفهي والتدويني لمجريات ذلك الصراع ، كما كانت ولم تزل منبراً محورياً للتعبير القبلي الجمعي عن مواقف وتوجهات القبيلة من الحكم والنظام السياسي ، وكانت أولى الزوامل السياسية التي أخذت مكانها في ذاكرة المجتمع اليمني زامل الشيخ علي ناصر بن مسعد القـردعي- وهو من مشائخ قبائل مراد (حريب- مأرب).
والقصّة التي أدت إلى هذا الزامل طويلة جداً ، لكن من المُهِم الإشارة إلى أن سبب الخلاف الذي نشأ بين الإمام يحيى بن حميد الدين والقردعي رحمهما الله ، هو معارضة الأخير لنزول جيش الإمام على قبائل مراد في حريب ، وتدخله في أمور كثيرة تخص جابي الإمام في حريب ، كما قاد القردعي- دون موافقة الإمام يحيى- حرباً أخضع من خلالها بيحان لسلطته القبلية ، وكانت خاضعة للإستعمار البريطاني في ظل معاهدة كانت قائمة بين الإمام والإنجليز ، فسُجَن القردعي في صنعاء بتهمة الخروج على الإمام ، وعيّن الإمام عقب ذلك محمد الكحلاني والياً على حريب ، وأرسل الجيش للإستقرار فيها ، فتمكن القردعي من تمرير رسالة لأخيه في بيحان طلب منه فيها قتل الكحلاني ، فكان له ذلك ، وتواترت الأحداث والقردعي في سجنه ، وفي أحد الأيام تمكن من ضرب أحد السجانين أثناء دخوله لزنزانته لتقديم السحور ، واستلب مفاتيح الزنزانة ، وتسلَّق سور السجن هو ورفيقه علي الحميقاني ، وتوجها نحو قبائل خولان ، وبقيا متخفيين فيها لمدة ثلاثة أيام حتى استطاعا الخروج نحو بيحان ، حيث يتواجد أخوه أحمد القردعي ، وحين اجتاز الجبال وأشرف على بيحان أنشد القردعي زامله المشهور :

يــــا ذي الشــوامــــــخ ذي بـــــــديتـــــي
مــا شــي عـلـــى الشـــارد ملامة
قولي ليحيى بن محمــــــد
با نلتقي يوم القيامــــــة

وكان هذا الزامل أول ما دون وتناقله الناس عن الزوامل ذات الصبغة السياسية في البلد ، وقد تكون هناك زوامل أخرى من قبل لكنها لم تدوُّن ، وإن دُوّنت فلم تنتشر على ألسنة الناس.
بعد ذلك دخل الزامل طوراً جديداً مع دخول القبيلة اليمنية طور الصراع السلطوي ، ولعل أبرز ما يشار إليه من قصص روَّاد الزامل السياسي في اليمن المعاصر، ما حدث أثناء حرب الجمهوريين والملكيين بعد قيام ثورة السادس والعشرين من سبتمبر عام 1962م ، حيث لم تبرح زوامل تلك المرحلة السياسية من تاريخ اليمن المعاصرة ذاكرة المجتمع اليمني ، وكان من أشهرها زامل الشيخ ناجي بن علي الغادر ، وكان في صفِّ الملكيين ، والذي قال فيه :

حيد الطيال اعلن وجاوب كل شامخ في اليمن
ما بانجمهر قط لو نفنى من الدنيا خلاص
لو يرجع امس اليوم والا الشمس تشرق من عدن
والأرض تشعل نار وامزان السما تمطر رصاص

وقُوبل هذا الزامل برَد قوي جداً صار أيضاً على كل لسان كل يمني حتى اليوم ، حيث ردّ النقيب صالح بن ناجي الرويشان الذي بذل جهداً كبيراً في سبيل المصالحة بين المختلفين اليمنيين جمهوريين وملكيين ، وإرجاعهم الى الحوار والتفاهم الأخوي بدلاً عن البندقية ولغة السلاح ، حيث قال في جوابه :

قلنا اسمحو عفواً ، قَفَا ما قد تلـون والتون
الميج واليُوشَن مع بُو مرْوَحهْ والسّود خاص
ما يقرع الطيَّار ضرْب الشرْف هي والميم وَنْ
قُلْ للحَسَن والبَدْر يا ناجي قد الفضَّة نحاس.

* القصيدة الشعبية اليمنية الحديثة :

كنتيجة للتلاقح الفكري وفي ظل الطفرة العلمية والتطور الثقافي والمعرفي الكبير الذي أتاحته وسائل الإعلام والنشر الرقمية الحديثة ومواقع الأنترنت في عصرنا…انفتح المجتمع اليمني علمياً وثقافياً على الشعوب الأخرى , وذلك بما فيهم الشعراء الشعبيين منه ، وهذا ما جعلهم يلقحون أفكارهم بأفكارحديثة وأغراض عصرية مستقاة من مجريات الحياة اليومية الحديثة والمعاصرة , ودخلت على قاموس مفردات الشعر الشعبي ألفاظ سلسة وأساليب جديدة , وهذا ما فتح الأبواب لإستيراد واستنساخ بعض صور الحداثة الشعرية , كما ظهرت أشكال جديدة لتوصيل هذا الشعر , وتم تبسيطه وفقد الكثير من جزالته وغرابة بعض مفرداته التي كانت بالماضي , وذلك تبعاً للتطور الطبيعي الذي دخل على اللهجات اليمنية المحكية أيضاً , والتي هي اللهجات التي تصاغ بها مختلف ألوان الشعر الشعبي في مختلف المناطق اليمنية.
ومنذ قيام كلاً من الثورة اليمنية في الشمال والجنوب ثم قيام الوحدة المباركة سجلت القصيدة الشعبية العمودية الطويلة حضورها القوي والمميز في مختلف المراحل والأحداث والقضايا الإجتماعية والسياسية الوطنية , وحتى في الأغراض الوجدانية والعاطفية الفردية , وأزداد حضورها السياسي ودورها وأثرها كدعاية موجهة أثناء الثورة الشبابية السلمية ، وما تلاها من الأحداث المؤسفة التي مرت بها اليمن ، وعصفت بها حتى الآن.

خاتمة :

بعد كل ما سبق لنا استعراضه ، وما يعلمه الأدباء والمثقفين منا ، أعتقد أنه لا يجهل أحد الدور الكبير الذي يقوم به الشعر الشعبي في المجتمع والتأثير الايجابي أو السلبي المباشر الذي يحدثه في العديد من الأمور والقضايا في اليمن ، ومن هذا المنطلق يتضح دور الشاعر الشعبي اليمني في مجتمعه من خلال القصائد أو الزوامل التي يكتبها وينشرها , وتعالج قضايا معينة ، أو تعبر عن وجهة نظر صحيحة أو خاطئة يتفاعل معها المتابعون ويرددونها ، ثم يتناقلونها بعد ذلك.
وكأهم مثال لدور الشعر الشعبي في المجتمع اليمني ، وتأثيره المباشر وغير المباشر عليه..سبق لنا في التطرق للون الزواملي منه ذكر مدى شعبية الزامل الواسعة ، وبيان دوره وتأثيره في القبيلة والمجتمع اليمني ، وحتى في قضاياه السياسة , فالزامل كان وما يزال من وسائل النشر والترويج المرتبطة باليمنيين ثقافياً واجتماعياً وسياسياً ، والزامل كشعر…أقرب لأن يمثّل إيقاعاً للقول المنظوم ، المعبّر عن الحالة الحركية التي تتسم بالمشاركة لأكثر من شخص ، فهو يصدر من مرسلٍ ليحدث ردة فعل لدى المستقبل ، محدثاً أثراً وتحولاً عملياً لدى القبيلة والمجتمع.
ولذلك حرص أنصار الله في اليمن منذ وقت مبكر على توظيف هذا الدور الكبير والتأثير المباشر للزامل- بالذات-وللقصيدة الشعبية الحديثة ، لترديد نثرياتهم ومفاهيم أدبياتهم وتوجهاتهم ، وآرائهم الدينية والإجتماعية والسياسية ، وعادة ما تنشد تلك الزوامل جماعياً في فعاليات اجتماعية مختلفة مثل أسبوع الشهيد والمولد النبوي ، وغير ذلك من الفعاليات والمناسبات ، كما صارت تلك الأناشيد الزواملية تصدر في شكل ألبومات كثيرة ومتوالية عن فرق إنشادية فنية متخصصة ، وبذلك- كما قال بعض الباحثين- نجح أنصار الله في إضفاء أصالة ثقافية على أنفسهم لم تتمكن الأطراف المناوئة لهم من تحقيقها.

المصادر والمراجع :

– مقال بحثي مطول نشر تحت عنوان ” الزامل أشهر أجناس الأدب الشعبي في اليمن” للكاتب محمد محمد إبراهيم- موقع الثقافة الشعبية البحريني.
– مقال نشر تحت عنوان ” الزوامل.. دُرر الزمن من فنون اليمن ” للباحث  نزار العبادي.
– مقال بحثي نشر تحت عنوان ” البالة من أجمل ألوان الأدب الشعبي اليمني” للكاتب أحمد العجي.
– مقال بحثي مطول نشر تحت عنوان “اللغز والكناية والرمز…تشعب الزامل في الحياة” في موقع وكالة الأنباء اليمنية سبأ للباحث والكاتب غمدان الشوكاني.
– مقال بحثي مطول نشر تحت عنوان ” قديم قدم الإنسان…الزامل…وحدة الصف وقوة الجماعة” في موقع وكالة الأنباء اليمنية سبأ للباحث والكاتب غمدان الشوكاني.
– مقال بحثي مطول نشر تحت عنوان ” تفرده بالشل في الجموع…الزامل جذوره في نواة الأسرة جعله متعدد الأغراض” في موقع وكالة الأنباء اليمنية سبأ للباحث والكاتب غمدان الشوكاني.
– كتاب “الزامل في الحرب والمناسبات” لمؤلفه صالح بن أحمد بن ناصر الحارثي.
– كتاب ” الثقافة الشعبية” للشاعر والمفكر الكبير عبدالله البردوني.
– كتاب” فنون الأدب الشعبي” للشاعر والمفكر الكبير عبدالله البردوني.
– كتاب” قصة الأدب في اليمن” للشاعر والأديب المناضل أحمد محمد الشامي.
– موسوعة ويكيبيديا.
– موسوعة الشعر العربي.

تعليقات

  1. موضوع شامل واحاطة رائعة للشعر الشعبي اليمني وبعض ألوانه وفنونه المشهوؤة. كل الشكر والتقدير لكاتب المقال

    ردحذف

إرسال تعليق